الراقصة عباس

قد يندهش البعض لما سيقرأه هنا.. ولكني أدعوه أن يؤجل دهشة حضرته قليلاً حتي يصل إلي النهاية ويعرف تمام الحكاية:
طبلة
موقفي من الراقصات معروف وواضح ولم يتغير وكلمتي "لا ممكن" تنزل الأرض أبداً.. لكنها علي ما يبدو هتنزل المرة دي!.. ومنه لله زميلي الكاتب المعروف "سليمان الحكيم" فقد رأيت كتابه "كاريوكا" بين الفن والسياسة.. وعملت نفسي "مش واخد بالي".. فما الذي يمكن أن تخرج به من قصة حياة "عالمة" حتي لو كانت "تحية كاريوكا" شخصياً؟.. الحقيقة أن الكتاب يؤكد لنا أن كل شيء حولنا أصبح "مضروباً" وفالصو حتي الراقصات وقد رأيت كاريوكا بعيني وتكلمت معها وهي تشارك يوسف شاهين الاعتصام داخل نقابة السينمائيين وقرأت وجهات نظرها التي تدعوك للدهشة والإعجاب بها رغم أنفك.. فقد كانت صاحبة موقف وعندها وجهة نظر.. مع أنها مثل غيرها عانت الأمرين من التلطيم والبهدلة والمرمطة حتي تعلن عن نفسها.. وتصعد من بدروم الجوع والتشرد إلي "روف" الأكابر وأصحاب النفوذ.
اسمها الحقيقي "بدوية محمد أبو العلا" من مواليد الإسماعيلية وجاء اسم شهرتها عندما رقصت في ملهي بديعة مصابني رقصة "الكاريوكا" اللاتينية أما اسم "تحية" فقد حصلت عليه من الست بديعة شخصياً ورغم ما قيل في الكتاب عن تميزها كراقصة واستقلالها وابصر ايه ومدرك ايه.. لكن في حياة هذه المرأة "العالمة" جوانب من الانصاف أن نتحدث عنها فقد ناداها أحد أمراء العائلة المالكة "تعالي يابت" في كازينو من الكازينوهات فما كان منها إلا أن ردت عليه: "البنت دي تبقي امك مش أنا" ورغم أن هذا هو العادي في ثقافة العوالم.. لكن غير العادي أن ترد بهذا الأسلوب مع أمير وفي العصر المالكي ولولا أن هناك من الأسرة الملكية من دافع عنها وأنقذها لراحت في خبر كان.
والواقعة الأخري أنها رفضت أن ترقص للملكة نازلي الأم.. لأنها في نفس الليلة رقصت أمام الملكة فريدة زوجة الملك.. يعني هي "نمرة" واحدة ويفتح الله.
والحقيقة أن هذه "العالمة" حاولت أن تلعب دوراً بارزاً في تحسين أحوال الفنانين وأن تثقف نفسها وتتعلم وتفكر.. ولهذا يقول "سليمان الحكيم": إن كاريوكا لعبت دوراً سياسياً لا يمكن إنكاره في مراحل عديدة.. وربما لهذا كانت ممثلة بارعة وذهبت إلي مهرجان كان السينمائي الدولي "بالملاية اللف" وأخذت الاهتمام والأضواء من نجمات هوليود ويسأل مصطفي أمين عن العشرة التي يمكن لها أن تراقصهم بمزاجها.. وبقدر بساطة السؤال وهو موجه لراقصة لكن الإجابة تأتي علي عكس المتوقع فيها الكثير من الفهم والوعي.. وقد جاء اختيارها كالآتي: الرقصة الأولي لوزير المعارف مرسي بدر بك لأنه ألغي تعليم الرقص في المدارس ربما يغيره ولأنها أيضاً معجبة بشنبه الذي يقف عليه الصقر والثانية لفضيلة الشيخ محمود أبو العيون لكي يوقف حملاته ضد الرقص والثالثة لفؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية عندما ينجح في انقاص وزنه.. أما الرقصة الرابعة فقد منحتها لدولة مصطفي النحاس باشا رئيس الوزراء لأنها معجبة به لله في لله والخامسة من نصيب حيدر باشا وزير الحربية لأنه رجل عسكري وله جسم رياضي والرقص رياضة والرقصة السادسة منحتها لعميد الأدب العربي طه حسين لأنه رجل يحب الموسيقي.. وهو ما يؤهله لأن يحب الرقص.. وجاءت الرقصة السابعة لصاحب الدولة إبراهيم عبدالهادي باشا خليفة علي ماهر والنقراشي في زعامة الهيئة السعدية لكي تهمس في اذنه بكلمتين لا نحب لقاريء الجريدة أن يسمعهما.. والثامنة لمكرم عبيد باشا لأنه صاحب الخطاب الساحر البليغ المفوه.. واختارت للرقصة التاسعة عبدالفتاح عمرو باشا سفيرنا في لندن لأنه مثال للجنتلمان الذي تحب أن تراقصه سيدة محترمة.. "علي فكرة المحترمة أصلاً لن تسمح لنفسها بأن يحتضنها رجل غريب حتي لو كان "السيد البدوي" باسم الرقص والجنتلة".
ولكن ما علينا.. ونصل إلي الرقصة الأخيرة وقررت أن تهديها الست كاريوكا إلي عبود باشا رجل المال والأعمال لكي يستثمر فلوسه في السينما وهكذا نجد أن كل رقصة خلف منها حدوتة.
طبلة ثانية
في مهرجان كان سنة 56 وبعد أن لاحظت كاريوكا تجاهل وسائل الإعلام للوفد المصري وبعد أن لبست الملاية اللف وجذبت الأنظار جلست في حفل غداء بجوار الممثلة الأمريكية العالمية "سوزان هيوارد" ولما فتحت موضوع إسرائيل كادت كاريوكا أن تأكلها بأسنانها وعندما حاول الممثل الأمريكي "دانر كاي" أن يدافع عن زميلته بصقت في وجهه.. وأسرع بالفرار من أمامها.. وبعد هذه الوقعة منحها الرئيس جمال عبدالناصر جائزة الدولة عن فيلم "شباب إمرأة".
طبلة أخيرة
خلاصة المسألة أن تحية كاريوكا لم تكن فقط مجرد راقصة لكن ممثلة ولها رأي وقد رفضت أن ترقص أمام الزعيم التركي أتاتورك لأنه أهان السفير المصري أمامها.. ولم تنقلب علي أصلها وفصلها رغم ما وصلت إليه ولم تحاول أن تفلسف المسألة أكثر من اللازم فإذا كنت مثلي من غير المقتنعين أساساً بأن الرقص هو فن.. فإنك ولابد سوف تقتنع بها كممثلة وقد قدمت أيضاً علي المسرح عدة أعمال جريئة وهادفة.
ولا أدري علي وجه التحديد هل الراقصة تستمد أهميتها من وجودها في مضمار السياسة.. أم السياسة ورجالها هم الذين يمنحونها هذه الأهمية عندما يهرولون خلف "الراقصة" في الليالي إياها.. وبالمناسبة كاريوكا دخلت السجن بتهمة الانقلاب علي الثورة وأطلقت علي نفسها لقب "عباس" وهو اسم حركي كان يناديها به زوارها من خارج أسوار السجن وكما ثارت خارج الأسوار أعلنت الغضب بداخلها ضد التعذيب والخدمة الشاقة.. بصراحة هي إمرأة كوكتيل أو فخفخينا إذا لم تحب منها "الكاكا" أحببت "الفراولة" أو الموز.. وسلام كبير للمعلم سليمان الحكيم.
منقول