شهادة مبارك لعبد الحكيم عامر عن الطائرات الأمريكية يوم النكسة

بعد يومين من اندلاع حرب الأيام الستة في يونيه 1967، انتشرت في البلاد شائعة تقول إن هناك طائرات أمريكية، يقودها طيارون أمريكيون، شاركت القوات الإسرائيلية في الهجوم علي مصر.. وفي الساعة 4:20 عصر يوم 6 يونيه، بثت إذاعة القاهرة الكبري بيانا أعلنت فيه أن هناك "أدلة قاطعة علي أن الولايات المتحدة وبريطانيا شاركتا في الغارات الجوية علي مصر".. ويعتقد كثيرون أن قائد القوات الجوية ، الفريق محمد صدقي محمود، كان هو المسئول عن هذه الرواية.

منذ بداية الساعات الاولي ليوم 5 يونيه، كان قائد القوات الجوية المصري، يحاول إقناع الكل بأن "كثافة وحجم وعدد" القوات الجوية للعدو ، تشير حتما إلي تورط الولايات المتحدة وبريطانيا"، واصر القائد حتي علي أن هناك طيارا مصريا، اسمه محمد حسني مبارك، أبلغ عن رؤية طيارات أمريكية أثناء الغارة علي قاعدة الأقصر الجوية.. وعلي الفور، اتصل المشير عبد الحكيم عامر بقاعدة الأقصر الجوية، وتحدث شخصيا للطيار حسني مبارك الذي أنكر تلك الرواية، قائلا أن الطائرات الوحيدة التي رآها .. كانت طائرات إسرائيلية.

أدرك جمال عبد الناصر حجم فداحة الهزيمة التي عانت منها مصر.. ولأنه كان يعتبر نفسه مسئولا.. قرر التنحي.. خرجت فيما بعد مظاهرات حاشدة تدعوه للبقاء.. وظن البعض أنها كانت بترتيب مسبق من الاتحاد الاشتراكي.. لكني لا أؤيد هذا التصور.. لم يكن الاتحاد الاشتراكي العربي قادرا علي حشد ملايين من الناس التي مازالت تشعر بمرارة الهزيمة في الحلوق.. في مثل هذا الوقت القصير.. دعك طبعا من أن يتم ذلك بسرية.. لقد كانت تلك المظاهرات عفوية من دون شك .. مثلما كان عبد الناصر محبطا حقا.. وكان قراره بالتنحي نابعا من صميم قلبه.

كان عبد الناصر يريد ان ينسحب.. لكن الشعب كان يصر علي بقائه .. ومن المؤكد أن هذه الإرادة الشعبية لعبت دورا في أن يغير عبد الناصر رأيه ويتراجع عن التنحي.. لكن.. في الفترة ما بين قرار عبد الناصر بالتنحي.. وتراجعه عن هذا القرار.. وقع حدث شديد الأهمية .. ربما كان له تأثيره علي مجري سير الأحداث.

قبل يوم واحد من خطاب التنحي الذي ألقاه عبد الناصر.. وصلت برقية من موسكو للسفير السوفيتي في القاهرة "ديميتري بوجيداييف".. كانت البرقية تأمره أن يبلغ عبد الناصر بأن الاتحاد السوفيتي سيستبدل كل المعدات التي فقدتها مصر في الحرب بمعدات أخري جديدة مجانا.. كل المعدات بما فيها الطائرات والدبابات دون أن تدفع مصر قرشا واحدا.. لكن.. لم ينجح السفير الروسي في نقل تلك البرقية إلي جمال عبدالناصر قبل أن يعلن قرار استقالته لأن الرئيس المصري رفض استقبال أي زوار لمدة ثلاثة أيام قبل إعلانه التنحي.. في الوقت الذي كانت فيه تعليمات السفير تنص علي أن يسلم البرقية للرئيس شخصيا.. وحده دون سواه.

أنا و زميلي فلاديمير سنيلنيكوف، مستشار السفارة السوفيتية للعلاقات مع الاتحاد الاشتراكي العربي.. ذهبنا للسفير السوفيتي وطلبنا منه أن يسعي للقاء عبد الناصر مرة أخري ونقل رسالة موسكو إليه.. مع تعديل بسيط.. هو أن العرض السوفيتي لإعادة بناء الجيش المصري سيظل قائما لو ظل هو رئيسا للبلاد.. قال السفير "بوجيداييف" إنه عندما نجح أخيرا في الوصول إلي عبدالناصر ونقل الرسالة إليه.. شعر عبد الناصر بالتأثر إلي حد أن ترقرقت عيناه بالدموع.. وبالطبع، فمن الصعب القول إن هذا العرض وحده، كان السبب في تراجع عبد الناصر عن قرار التنحي، لكن من المؤكد أنه كان له تأثير عليه.

يظل السؤال الأكثر أهمية في تلك الفترة هو "كيف بدأت حرب الأيام الستة".. إن هناك ثروة من تقارير المخابرات السوفيتية في تلك الفترة، تؤكد أن كل أفعال عبد الناصر في تلك الفترة لم تكن تهدف لأكثر من استعراض القوة أمام إسرائيل.. وانه لم يكن راغبا في أن يكون صاحب الضربة الأولي في أي صراع عربي إسرائيلي.. وحتي في 3 يونيه 1967 . أي قبل الحرب بيومين.. وفي اجتماع مغلق مع القيادات العسكرية والسفراء المصريين، قال عبد الناصر صراحة:" لن أكون البادئ بالحرب.. لو فعلت ذلك فسيزعزع هذا موقفي أمام حلفائي وأمام باقي دول العالم.". وقال تقرير صادر عن مكتب الكي جي بي (المخابرات السوفيتية) في القاهرة.. إن هدف عبد الناصر الأساسي في تلك الفترة كان تأمين المزايا التي حصلت عليها مصر من انسحاب قوات الأمم المتحدة من سيناء بأقصي سرعة ممكنة.. ثم كان ينوي بعدها أن يطالب إسرائيل بالالتزام بقرارات الأمم المتحدة في القضية الفلسطينية.. وأن توافق علي إقامة منطقة منزوعة السلاح في المنطقة التي انسحبت منها قبل حرب 1956

كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كانا يسعيان لاحتواء الموقف ومنع اشتعاله بين مصر وإسرائيل.. يوم 1 يونيه 1967، وصل مبعوث خاص من الرئيس الامريكي ليندون جونسون إلي مصر سرا لدعوة المشير عبد الحكيم عامر لمفاوضات سرية مع الرئيس الأمريكي.. ووافق عبد الناصر فورا علي عرض الأمريكان لأنه ظل يتصور إمكانية تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي يسعي إليها دون اللجوء للخيار العسكري.. وإن أراد إرسال زكريا محيي الدين للولايات المتحدة بدلا من عبد الحكيم عامر.. وأكد مبعوث جونسون لعبد الناصر قبل أن يعود لبلاده، أن إسرائيل لن تطلق أي هجوم عسكري ما دامت القنوات الدبلوماسية ما زالت مفتوحة.. لكن بالطبع، لم تتم رحلة زكريا محيي الدين لأمريكا ، لأن حرب يونيه اندلعت بعد تلك الزيارة بأربعة أيام فقط.

لقد كان موقف الولايات المتحدة قد تغير بالفعل قبل الحرب بأيام.. ويرجع ذلك التغير في جزء كبير منه إلي زيارة سرية، قام بها مدير الموساد الإسرائيلي مائير عاميت إلي موسكو، التقي فيها بمدير المخابرات المركزية ريتشارد هيلمز، ووزير الدفاع روبرت ماكنمارا.. ونجح مسئولو الجيش والمخابرات الأمريكان في إزالة أي شكوك لدي الرئيس جونسون، وأقنعوه بأن من مصلحة الولايات المتحدة ان تستغل الموقف، وتسمح لإسرائيل بشن هجوم علي القوات العربية.. وفي 4 يونيه 1967 ارسل عاميت برقية لرئيس الوزراء الاسرائيلي ليفي أشكول، تؤكد له أن أمريكا قد أعطت الضوء الاخضر للهجوم الاسرائيلي.

علي الجانب الآخر.. وقبل النكسة بأسبوع.. أي يوم 28 مايو.. كان الاتحاد السوفيتي، ممثلا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم في موسكو، يسعي لتهدئة الموقف بين مصر وإسرائيل من خلال ترتيب لقاء بين رئيس الوزراء الاسرائيلي ليفي أشكول والرئيس جمال عبد الناصر في موسكو.. وسعي السفير الروسي في القاهرة، من خلال المشير عبد الحكيم عامر، إلي جس نبض الرئيس عبد الناصر بشأن هذا اللقاء.. وكان رد عبدالناصر هو أنه "يتفق تماما مع العروض الحكيمة التي تقدمها له الحكومة السوفيتية".. وأضاف عبد الناصر ساعتها:" ما دامت الجمهورية العربية المتحدة لا تفكر في شن هجوم ضد إسرائيل.. إذن فلن يضير أشكول شيئا لو أجرينا مباحثات في موسكو.. وسيكون سلوك إسرائيل أكثر هدوءا بعد زيارة أشكول لموسكو."

في الساعات الاولي من فجر يوم 2 يونيه تلقي السفير السوفيتي في تل أبيب " ديميتري شوفاخين" برقية دبلوماسية من موسكو كتب عليها "اولوية مطلقة".. كانت البرقية تطالبه بمقابلة رئيس الوزراء الإسرائيلي دون إبطاء.. وتسليمه دعوة من الحكومة السوفيتية للسفر إلي موسكو في اليوم نفسه من أجل لقاء سري مع الرئيس عبد الناصر.. والتقي السفير السوفيتي مع رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير خارجيته في الساعة الثالثة صباح اليوم نفسه.. ووافق أشكول علي لقاء عبد الناصر في موسكو.. وأبلغ شوفاخين قيادته بذلك.

لكن بعدها بساعتين.. وصلت برقية عاجلة أخري إلي السفير السوفيتي في تل أبيب.. كانت البرقية تبلغه بإلغاء الاجتماع بين عبد الناصر وأشكول.. فقد سحب عبد الناصر موافقته المبدئية عليه بسبب المعارضة القوية التي واجهها من الرئيس السوري نور الدين الاتاسي ورئيس وزرائه.. وقال عبدالناصر للسفير السوفيتي في القاهرة، إنه علي الرغم من أنه لا يشارك القيادة السورية في وجهة نظرها المتشددة، إلا أنه لا يمكن عقد ذلك الاجتماع من دون موافقة دمشق.

نقل السفير السوفيتي في تل أبيب تلك الاخبار لليفي أشكول.. فلم تبد خيبة الأمل عليه.. بل بدا عليه الارتياح.. إذ إن مشاركته في تلك المباحثات التي دعت إليها موسكو كان يمكن ان تعقد موقفه في القيادة الإسرائيلية.. كما أن إسرائيل لم تكن تنوي تأجيل حسم الموقف أكثر من ذلك.. بينما الاقتصاد الاسرائيلي يرزح تحت ثقل التعبئة العامة للجيش.

ويمضي بريماكوف في مذكراته ليذكر تفاصيل المكالمات السرية التي تمت بين واشنطن وموسكو بمجرد أن اندلعت حرب 67 . يروي بريماكوف انه كان هناك خط ساخن بين البيت الأبيض الامريكي والكرملين السوفيتي قبل حتي ان تندلع الحرب.. وكل طرف منهما يطالب الطرف الآخر بأن يسيطر علي الدولة التي يرعاها.. ويوم 27 مايو، أرسلت موسكو رسالة للرئيس جونسون تحذيرا بأن إسرائيل تنوي شن هجوم علي الدول العربية، وطالبته بالتدخل لمنعه، فرد الرئيس جونسون علي الاتحاد السوفيتي برسالة طلب منه فيه أن يدعو مصر "لتهدئة الأمور".

بمجرد ان اندلعت الحرب فعليا في 5 يونيه.. اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خطوات لتأمين عدم تدخل أي منهما عسكريا في الحرب.. وأن كلا منهما سيسعي لإيجاد حل للصراع من خلال الامم المتحدة.. وكان هذا الهدف هو محور معظم المكالمات التي دارت عبر الخط الساخن بين الكريملين والبيت الابيض.. لكن، ويوم 10 يونيه.. قبل ساعات من انتهاء حرب الايام الستة.. بدا وكأن إسرائيل تستعد لاجتياح دمشق.. فاتصل الاتحاد السوفيتي بالرئيس جونسون ليبلغه بأن الاتحاد السوفيتي سيضطر لاتخاذ موقف منفرد والتدخل لمنع إسرائيل من مواصلة عملياتها العسكرية علي الجبهة لو فشلت في وقف تلك العمليات في الساعات القليلة التالية.. وبالفعل.. أخذت إسرائيل الإنذار السوفيتي علي محمل الجد.. وأوقفت عملياتها العسكرية علي كل الجبهات بعد ثلاث ساعات من توجيهه.

ويصل بريماكوف بمذكراته إلي واحد من أهم المحطات في تاريخ مصر.. إلي مرحلة توتر .. وتدهور العلاقة بين الرئيس عبدالناصر.. والمشير عبد الحكيم عامر.. وهي المرحلة التي يرويها بريماكوف.. من خلال التقارير التي وردت بدقة إلي المخابرات السوفيتية في ذلك الوقت.

يروي بريماكوف انه بمجرد أن انتهت الحرب وصلت العلاقة بين عبد الناصر وعامر إلي أسوأ مراحلها، واضعة الاتحاد السوفيتي في موقف لا يحسد عليه.. عامر عمل عن قرب مع العسكرية السوفيتية.. وهو مثل عبد الناصر، يحمل لقب "بطل الاتحاد السوفيتي".. إلا أن المخابرات السوفيتية اوردت في تقاريرها أن المشير عامر كان ينوي التوجه لمنطقة قناة السويس للسيطرة علي قوات الجيش التي تدين بالولاء له.. وكان ينوي بعدها توجيه مجموعة من الانذارات للرئيس عبد الناصر ثم يزيحه عن الحكم لو رفض الرضوخ لهذه الانذارات.. كان من المستحيل أن يقف الاتحاد السوفيتي علي الحياد.. فكل طاقاته كانت موجهة لدعم الرئيس الشرعي للبلاد.

كل من عبد الناصر وعامر كان يملك نقاط قوته.. عبد الناصر يمتلك التأييد الشعبي الجارف له.. وعامر يمتلك قاعدة عسكرية قوية في الجيش المصري.. عام 1962 تحدي عامر عبد الناصر وهدده بتقديم استقالته لو لم يمنحه السيطرة المطلقة علي الجيش.. يومها استسلم عبد الناصر .. لكن.. بعد أن كشفت هزيمة 1967 عن مدي هشاشة قيادة عامر للجيش.. لم يكن عبدالناصر مستعدا للرضوخ مرة أخري.. وبدا واضحا انه لابد من إعادة ترتيب القيادات في الجيش المصري من جديد.

لم يبدو عامر راضيا بعزله عن منصبه كقائد للجيش علي الرغم من أنه ظل محتفظا بمنصبه كنائب للرئيس.. كان هناك عدد من قادة القوات الجوية يتحملون مسئولية محددة عن هزيمة يونيه لأنهم عرفوا مسبقا بنية إسرائيل للهجوم وفشلوا في الاستعداد للتصدي لهذا الهجوم.. هرب هؤلاء القادة من المسئولية.. والمساءلة.. واحتموا ببيت عبد الحكيم عامر بوسط القاهرة الذي تحول إلي ثكنة لمعارضي عبد الناصر ، يتم تهريب الاسلحة سرا إليها تحت حراسة وحدة خاصة من العمال الذين كانوا يعملون من قبل، في أملاك شقيق عبدالحكيم عامر.

بدأت التقارير في تلك الفترة تؤكد أن عامر ورجاله بدأوا في التحضير الجدي لانقلاب علي نظام الحكم.. كان من المفترض أن يبدأ الانقلاب يوم 27 أغسطس.. وهو اليوم الذي سيصل فيه عامر إلي مقر قيادة المنطقة الشرقية بالقرب من قناة السويس.. كان ينوي ان يسير بصحبة 150 طالبا مسلحا من طلبة الكلية الحربية.. في الوقت نفسه، كان مفترضا ان يتجه وزير الحربية السابق شمس بدران إلي مقر قيادة الجيش الرابع ، ويفرض سيطرته عليه، ثم يجعل الجيش يتوجه إلي القاهرة.. ثم تتم محاصرة دائرة المقربين من عبد الناصر بسلسلة من الاعتقالات المدروسة.. ويتجه عامر بعدها أخيرا إلي القاهرة ليتم استقباله فيها استقبال الأبطال.. وقال عامر لرجاله في ذلك الوقت:"دعوا عبد الناصر يري كيف تتم الامور."

انكشفت كل تلك الحقائق أمام عبد الناصر قبل يوم واحد من دعوته لعقد قمة عربية في الخرطوم.. ومنذ تلك اللحظة جرت الاحداث علي النحو التالي: تم استدعاء عامر للقاء عبد الناصر.. وفي حضور نواب الرئيس زكريا محيي الدين، وحسين الشافعي ورئيس مجلس الشعب وقتها أنور السادات، تم إبلاغه بتحديد إقامته في منزله.. وبأنه قد تم اعتقال الضباط المجتمعين في منزله ومصادرة جميع الأسلحة الموجودة فيه.. وانتحر عامر.