أثق أنه لم يصل خيال أي كاتب سيناريو "ركيك" لتصور الأحداث "الـ..." التي سبقت وتلت مباراتي مصر والجزائر للتأهل لكأس العالم، فكل هذا الإسفاف الذي انتشر وتوغل وتجاوز البلدين "الشقيقين"، واستشرى في جميع "الأمة" العربية فانقسمت أصوات الشباب و"الرجال"، وانضمت إليهم الفتيات والنساء، بين مؤيد لهذا الفريق "بشراسة"، أو مدافع عن الفريق الآخر "باستماتة".
وتوقفت طويلا عند أمهات الإعلاميين في شتى أنحاء العالم العربي، وخاصة مصر والجزائر، وحاولت "تخيل" كيف قمن بتربية أولادهن، هل قلن لهم: الغاية تبرر الوسيلة؟ وحتى تصل إلى الشهرة لا يهم ماذا تفعل، ولا أي ثمن تدفع من احترامك لنفسك ودينك ووطنك، فالأهم هو أن تحرص على أكبر كم من الإثارة حتى لو جاء ذلك على حساب ثوابت الأمة؟!
نعم.. نحن أمة عربية، ولسنا -ولن نكون- أبدا جزءا من الشرق الأوسط، نحن عالم عربي واحد تربطه لغة واحدة ودين واحد، بل "مصير" واحد أيضا؛ وهو ما نتجاهله جميعا، فلو كان هناك أشخاص راشدون في أي إعلام لما تفاقمت الأمور بهذا الشكل المخزي، ولما سايرته باقي الأجهزة الإعلامية لصرف الأمة عن قضاياها المهمة، وتتناسى ضياع الأقصى، والتفاف الأعداء حولنا لالتهامنا الواحد تلو الآخر.
لا للحرائق !
وأكاد أسمع أصواتا نسائية تعترض: هذا حديث سياسي يخص الرجال، وأرد بكل الود والاحترام: بل هذا حديث يخص الدفاع عن "وجودنا" في الحياة جميعا، رجالا ونساء، فكما نتحدث عن تحقيق الذات والمساواة مع الرجال، و... و... فلماذا النكوص والتراجع عندما نتحدث عن الفرص "الحقيقية" لتحويل كل هذه "الشعارات" إلى حقائق "محترمة" تنير حياتنا "ولا تحرق" ما تبقى من العلاقة الزوجية والأسرية وتمتد لتؤذي أوطاننا؟! فقد استقبلت غالبية النساء دعاوى تحقيق الذات بصورة تسببت في تعاستهن، فسادت لغة التحدي في التعامل مع الرجل.
والمؤكد أن ما نحصل عليه بـ"الانتزاع" أو بالإجبار سيكون أقل بصورة لا يمكن مقارنتها بما سنحصل عليه بالود، فما نعطيه جميعا -رجالا ونساء- بكامل اختيارنا يكون "أجمل" وأكبر وأدوم مما نعطيه تحت الضغوط أو المضايقات.
كفى إضاعة لأعمارنا
وأكاد أسمع من تقول: وما علاقة ذلك بأحداث "الـ..." -والتي أترفع عن تسميتها بما يليق بها- لمباراة مصر والجزائر؟ فأرد بقول رائع للإمام الشافعي: «حياتك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل»، فقد انشغلت غالبية النساء بالصراع مع الرجال، وبإهدار العمر في اللهاث أمام الفضائيات، وترك الأبناء لكل من الإنترنت والفضائيات ليقوموا بتربيتهم بدلا منهن.
وماذا نتوقع من أبناء يتابعون برامج القمار على الفضائيات -وهو الاسم الحقيقي لكثير من برامج المسابقات- التي تسرق منهم "احترام" قيمة العمل، أو "بناء" أنفسهم ولا يتحولون إلى أعباء "إضافية" على حاضر ومستقبل هذه الأمة.
وحتى لا يتهمني أحد بالمبالغة، أذكر الجميع بالصور التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية لأطفال العدو الصهيوني "البغيض" وعلى شفاههم ابتسامات عريضة وهم يكتبون على الصواريخ قبل غزو لبنان عام 2006 إهداء منهم إلى أطفال لبنان.
أي أن أعداءنا يقومون بتربية أبنائهم على كراهيتنا، وعلى الاحتفال بتدميرنا، ويعدونهم إعدادا مستميتا لذلك، ونحن نتحدث عن احترام الحوار بدعوى التحضر مع من يختلفون عنا في كل شيء، في الدين، واللغة، والتاريخ المشترك، وقاموا باحتلال أرضنا، فلماذا "يختفي" هذا التحضر داخل غالبية بيوتنا أولا، ثم بين أفراد الوطن الواحد، وبالطبع أبناء الوطن العربي الأكبر؟! ونتجاهل بكامل وعينا أن إسرائيل لن تكتفي بما التهمته من أراض، وأعلنها باراك حين قال إن إسرائيل لن تتوقف عن مشروعها إلا عندما يتخلى الوطن العربي كله عن ثوابته الدينية والقومية.
ونحن نعامل أولادنا وكأنهم "أعباء"، نتخلص منها "بإلقائهم" أمام الفضائيات والإنترنت ومع الأصحاب، حتى "نرتاح" ونفعل ما يحلو لنا.. ولنتذكر الحديث الشريف: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول».. والإضاعة هنا ليست مادية فقط، ولكنها معنوية أيضا، فالأم التي تضيع "عقول" أولادها تخسر في الدنيا والآخرة أيضا.
النداهة وخسائرنا!
ففي الدنيا ستحصد الخسائر لزيادة الانحرافات الأخلاقية بين الشباب والفتيات، ولا شك أن أي أم ستشقى برؤية أولادها يكتفون من النجاح في الحياة في كل الجوانب بأقل القشور، ويتقاتلون مع إخوتهم داخل الأسرة الصغيرة لأتفه الأسباب، ويعيش كل واحد منهم في جزيرة منعزلة وكأنهم الإخوة الأعداء، أو على الأقل غير المتحابين.
كما كثرت التعاملات غير الودية بين أبناء الوطن، وانتشرت روح الفردية، وتآكل الاهتمام بقضايانا، فتم اختزال الانتماء إلى الوطن وامتهانه بجعله رهينة لأقدام لاعبين في كرة قدم، وتنمية التعصب البغيض حتى يفرغ الجميع "هزائمهم" في شتى جوانب الحياة العاطفية والعلمية والعملية في انتصار "فريق" يلوكونه -مثل المخدرات التي تسرق العقل- ثم يعودون إلى حالة "الغيبوبة" التي نختارها جميعا، وكأن هناك "نداهة" تقوم رغما عنا بجرنا إلى هذه الغيبوبة، والنداهة لمن لا يعرف هي كائن خرافي في الأساطير تقوم بالسيطرة على الناس رغما عنهم.
فالنداهة تقبع داخل عقولنا، وربطت بين قيامنا بحسن التعامل مع الأزواج لنعيش بأفضل صورة ممكنة وبين ضياع الحقوق، وكأن "الخراب" الذي حل بالأسر العربية حتى الآن ليس كافيا لتفيق النساء، وتحطم أساليب الندية والتحدي مع الرجال الذين اعتادوا عليها، بل إن بعضهم "استفاد" منها وألقوا للنساء بعض صلاحياتهم مقابل الخلاص من مسئولياتهم المادية أو انتزاع أموال النساء.
والنداهة تقبع في عقول الكثير من الأمهات اللاتي توهمن أن تربية الأبناء حلما ورديا وليس مجهودا متواصلا ومثابرا، وأن التهاون فيه يعني الخسارة للجميع في الدنيا والآخرة.
والنداهة تقبع في عقول الكثير من شبابنا الذي لم يجد أمهات تنير له طرق الانتفاع بالشباب لصنع مستقبل أفضل لهم ولبلدانهم ولأمتهم، والذي أهدر طاقات غالية من أعماره في تبادل الشتائم على الإنترنت وتكوين مجموعات على الفيس بوك للنيل من الفريق المصري أو الجزائري، وتناسى أن هناك تاريخا مشتركا أكثر من رائع، فـ"مصر جمال عبد الناصر" ساندت ثورة الجزائر حتى حصلت على استقلالها، وكانت أبرز الداعمين لها، و"جزائر بومدين" ساندت مصر أثناء حرب أكتوبر بالأموال وبالشهداء أيضا.
رسائل حب واحترام
لذا نرسل رسائل الحب والاحترام والافتقاد أيضا إلى أمهات الأجيال السابقة اللاتي أنجبن لنا ليس جمال عبد الناصر وبومدين فقط، ولكن كل أبناء "الوطن" العربي وقتئذ حين كان الانتماء حقيقيا "ومحترما" وليس مزيفا ومبتذلا، فالوطن عندما "يهون" نختزله في مباراة كرة قدم، والحياة عندما "ترخص" نقوم ببعثرتها أمام الفضائيات، وباقي التوافه.
ولأن المرأة هي صانعة الرجال فلنتأمل بجدية فيما حدث؛ فعن أي رجال نتحدث الآن؟ وأي رجال نصنع؟ ولنفق من الغفلة؛ فالأعداء يتربصون بنا من كل جانب، ونحن نتأخر في جميع جوانب الحياة والجميع يسبقنا.. ولنتذكر اعتراض إسرائيل على إذاعة أغنية "وطني حبيبي الوطن الأكبر" في الإعلام العربي لأنه يعيد "ذكريات" الصراع! ولنتأمل وصف "مباراة الكراهية"، وهو ما أطلقته صحف أجنبية على هذه المباراة لأحداثها الفجة، والحق أننا نكره حاضرنا ونهرب منه، ونكره مستقبلنا ومستقبل أولادنا، بل أحفادنا، فلا نستعد له.