المصريون في الخــارج ليسوا أبناء البطة السوداء

ليس بوسع أحد إنكار أن هناك مرارة لا حدود لها في أفواه المصريين في الخارج‏....‏ فهم دائما يشعرون بأنهم أبناء البطة السوداء‏,‏ فمصر ــ الوطن الأم ــ لا تعيرهم اهتماما وتتعامل معهم من منظور أن المغترب أشبه بالميت‏,‏ لا حقوق له‏,‏ والتفكير في أمره لا معني له‏..‏ ومنذ متي يفكر الناس في الأموات؟‏!‏

‏..‏ يشكو المصريون في الخارج من تجاهل الوطن الأم‏,‏ فعددهم بحسب وزارة القوي العاملة يبلغ نحو سبعة ملايين وبحسب وزارة الخارجية يبلغ نحو ثمانية ملايين‏...‏ وأمارات هذا الإهمال تتبدي لنا من غياب الرقم الصحيح لعددهم في الخارج‏,‏ وكذلك لعدم وجود هيئة أو وزارة خاصة بهم‏..‏ فهم تارة يلحقون علي وزارة الخارجية‏,‏ وتارة أخري يلحقون علي وزارة القوي العاملة‏,‏ وتارة ثالثة يخصصون لهم وزارة دولة‏...‏ وكلنا يذكر أن الدكتور بطرس غالي كان قد تولي في فترة من حياته مسئولية وزير الدولة للشئون الخارجية والمصريين في الخارج‏...‏ ولا أنسي يوم أن دعا قنصل عام مصر في باريس في ذلك الزمان ــ الدكتور محمود سليمان في أوائل تسعينيات القرن الماضي ــ إلي لقاء في منزله علي شرف الدكتور بطرس غالي ودارت مناقشات كبيرة حول قضايا الغربة والمغتربين‏...‏ وعندما طلبت لقاء لاجراء حوار مع الدكتور بطرس‏...‏ وافق علي الفور لكنه اشترط ان يكون في قضايا السياسة الدولية‏,‏ وليس في شئون المصريين بالخارج‏.‏

واذكر أنه لم يستحسن فكرة أن اسأله عن رؤيته للوجود المصري في الخارج‏...‏ واحسب أن هذا الشعور كان‏,‏ ولايزال يلازم كبار المسئولين والوزراء في مصر‏,‏ فالمصريون المغتربون لا وجود لهم ضمن‏(‏ بوصلة اهتمام‏)‏ هؤلاء الكبار‏..‏

والأخطر أن هذا الحال من الإهمال يعرفه المصريون في الخارج ويلمسونه في ألم ولا يجدون له مبررا‏...‏ ومما يزيد الأمر‏(‏ إيلاما‏)‏ هو أن المقارنة مع الدول العربية الأخري تأتي دائما ضد مصر‏...‏ بمعني أن اهتمام المغرب أو تونس أو لبنان بأبنائها المغتربين هو اهتمام بارز وأكاد أقول‏:‏ صارخ‏,‏ فهم موجودون علي خريطة السياسة والاقتصاد والاستثمار والسياحة‏...‏ وهم في ذات الوقت يعملون سفراء معتمدين لبلادهم في الاوطان التي يعيشون فيها‏..‏ وابناؤهم واحفادهم لهم مكان في العقل والقلب‏...‏ أما أبناء المصريين في الخارج‏,‏ فلا حس ولا خبر‏!‏

ومشكلات الاقامة الرسمية‏,‏ أو البطالة التي تضرب أطناب معشر المصريين المغتربين‏...‏ لا يشعر بها أحد‏!‏ والاصعب هو أن المغتربين يشعرون بأنهم أشبه بالهم علي القلب‏,‏ لا يدري بهم أحد في مصر المحروسة‏,‏ فالصحافة المكتوبة تخاصمهم‏,‏ والميديا المرئية لا تتحدث عنهم إلا من قبيل التسلية أما الميديا المسموعة‏,‏ فباستثناء برنامج ابناؤنا في الخارج الشهير الذي تقدمه الإذاعية الكبيرة شيرين غالب منذ أكثر من ثلاثين عاما‏,‏ فلا اهتمام من قريب أو من بعيد بالمغتربين‏.‏

الخلاصة التي توصل إليها المصريون في بلاد المهجر أنهم زائدون علي الحاجة‏!‏ والتضحية بهم أصبحت واجبة‏,‏ نعم تملأ المرارة الأفواه‏,‏ كما تملأ الأوجاع القلوب‏,‏ فالمصريون حديثو عهد بالغربة‏,‏ ورغم ذلك اثبت نفر منهم تفوقا ونبوغا في مجالات عديدة‏..‏ ويعترف القاصي والداني بهم إلابلدهم مصر‏!‏

ويؤلم المغتربين أن أحدا لا ينظر إليهم إلا من منظور أنهم‏(‏ حاملو هدايا‏)‏ وهابطون من السماء في المواسم مثل نهاية رأس السنة والاعياد الدينية مثل اسطورة بابا نويل الشهيرة في الغرب‏...‏ وفي عبارات أخري يؤلمهم أن ننظر إليهم وكأنهم البقرة الحلوب‏,‏ أو الدجاجة التي تبيض ذهبا‏...‏ ثم ينتهي الأمر بعد ذلك‏!‏

غاب عن بال أهل مصر ــ أن أي ابن في الخارج هو رسول وسفير وعنوان لبلده‏...‏ والنجاح الذي يحققه هو رصيد ــ ولو صغير يضاف لمصر‏:‏ وأي مكسب يحصل عليه مغترب مصري يضاف بالضرورة إلي المكتسبات التي حققتها مصر‏..‏ ‏...‏ جميل أن يستدرك الوطن ــ الأم ـ ما فات‏,‏ ويسرع في الاهتمام بالابناء المغتربين‏,‏ لكن ماذا بعد‏!‏ لقد التأم في مصر مؤتمر للمغتربين حضره عدد من المهاجرين في بلاد الدنيا شرقا وغربا‏,‏ وتحدث فيه الكثيرون‏,‏ وتم تكريم نفر من البارزين في حياة الغربة‏,‏ وتوصل المؤتمرون لصياغات وبيانات واحتشد الكثيرون للحديث عن استحداث هيئة مهمتها الاهتمام بالوطن الثاني ــ المهجر‏...‏ وغاب عن بال كل مصر أن مؤتمرات أخري سبق أن انعقدت وبيانات صدرت‏,‏ وصياغات دبجت‏..‏ ثم لا شيء بعد ذلك السؤال الآن‏:‏ هل كان هذا المؤتمر مجرد نزهة‏,‏ أو هل كان‏(‏ مكلمة‏)‏ تكلم فيها المتعطشون للخطابة وإلقاء البيانات‏.‏

مهم أن يحدث ذلك ــ مهما كان الأمر ــ لكن الأهم ألا نكرر ذواتنا‏,‏ ونعيد ما قلناه مثني وثلاث ورباع‏ لو عقدنا مقارنة بين بيانات المؤتمر الأول للمهاجرين المصريين‏,‏ وهذا المؤتمر لما وجدنا فوارق رغم أن عشر سنوات أو تزيد قليلا قد باعدت بين المؤتمرين‏ ابنائنا في الخارج يجب أن يكونوا في القلب‏,‏ ننشغل بهم ونهتم لما يحدث لهم‏...‏ نشاركهم الأفراح ونشاطرهم الاتراح‏...‏ لقد ذاقوا الامرين بسبب خلط الأوروبيين بين الدين وبين الإرهاب‏....‏ ودفعوا الثمن غاليا بسبب تحميلهم مسئولية تفشي البطالة والعنف بين شباب أوروبا‏...‏ وكأنهم هم الذين ملأوا الأرض ظلما وجورا بعد أن كانت عدلا وورعا‏..‏ أو كأنهم شياطين يعيثون في الدنيا فسادا‏..‏ وكم هو شاق علي النفس أن يجد المغترب نفسه‏(‏ ابليسا‏)‏ في نظر أهل الدول التي يعيش فيها‏(‏ ومظلوما‏)‏ في ذات الوقت في نظر أهله وذويه وشعبه في أرض الكنانة‏..‏

المغتربون يفتقدون القلب الطيب الحاني عليهم‏,‏ فلابد من احتضانهم‏...‏ هم في حاجة إلي إشعارهم بأنهم امتداد لنا‏...‏ ويهمنا أمرهم‏,‏ والدماء التي تجري في عروقهم تحمل المشاعر نفسها الطيبة لنا والانتماء إلي مصر هو قبلتنا جميعا‏..‏ ويخطئ من يعتقد أن المغترب المصري بعيد بقلبه وروحه عن مصر‏...‏ قد يكون صحيحا البعاد الجغرافي‏,‏ لكن مصر في القلب‏:‏ لأنها وطن يعيش فينا وليست وطنا نعيش فيه‏..‏

يترصد الكثيرون خطوات المصريين سواء من دعاة التطرف والعنف أو من مخابرات إسرائيل وأمريكا راغبين في تجنيد ضعاف النفوس ضد شعوبهم‏,‏ ولقد ابتلع الطعم نفر قليل‏,‏ لكن اغلبية المغتربين بألف خير‏,‏ والولاء لمصر ـ الوطن الأم ــ لا مزايدة عليه فقط هناك حلقة مفقودة بين مصر وبين ابنائها في الخارج وفي ظني أن المؤتمر الأخير للمهاجرين المصريين قد أكد رغم انتقادنا له أن المغترب يريد أن يشارك في النهضة التي يراها في ربوع مصر تنمو كالاشجار التي تعلو في ارضها الطيبة‏..‏ وأن يمارس حقه السياسي والاجتماعي في ضوء الحراك الديمقراطي الذي يشهد به العالم غنيا فتيا في ارض الكنانة‏...‏

انها بلاشك مطالب مشروعة‏,‏ واعتقد أن المناخ السياسي بات مواتيا‏..‏ وقد توافرت ــ الارادتان أو هكذا يبدو لي ــ إرادة الداخل‏,‏ وإرادة المصريين في الخارج‏,‏ وبالقطع سوف نجني الثمار الطيبة لهذا التطور في السنوات القليلة المقبلة‏.‏
بقلم‏:‏ د‏.‏ســـعيد الـلاونــدي